ضرورة استحضار التاريخ
قبل
أيام؛ أثناء تواجدي في بغداد سألت سائق التكسي عن مجموعة بنايات صادفناها في الطريق،
لفتت انتباهي من خلال طريقة بناءها وتصميمها، فذكر السائق تفاصيل قليلة عنها لكنها
كانت ملفتة ومهمة، منها والكلام للسائق: إن هذه البنايات مُنحت من قبل السلطة السابقة
لشريحة من المنتمين لها، ولكن بعد عام ٢٠٠٣ تم الاستيلاء عليها وطرد سكانها (الأصليين)
منها. واستمرارًا لحديثه وإجابته عن سؤالي أشار إلى بنايات أخرى بعد دخولنا لشارع آخر،
أيضًا قد تعرض أهلها الآثوريين والكلام للسائق، للترحيل وتم السطو عليها بالقوة!
حقيقة
طول الطريق أفكر مع نفسي، عن مصير من شُردوا من منازلهم؟ كذلك شعور الساكنين الحاليين
في هذه البنايات مع علمهم (الأكيد) بأنها بنايات مغصوبة، بأي حق سكنوا فيها وربما قسم
منهم باعوا أجزاء من هذه البنايات وربحوا ما ليس لهم؟
وأخيرًا
تساءلت عن السبب الذي يتيح للناس أن تتصرف هكذا تصرفات تتيح لهم ترحيل وتهجير من لا
يتوافقون ووجهة نظرهم؟ بعيدًا عن إجابة: إن أوقات الحرب تسمح للإنسان أن يرتد بأفعاله
إلى الماضي البدائي ويُباح له أن يكون وحشيًا وقاسيًا.
مصادفة
مع هذا الموقف وهذه التساؤلات، أقرأ كتاب بعنوان: (سجون نختار أن نحيا فيها) للكاتبة
البريطانية دوريس ليسنغ: وهو تجميع لخمس محاضرات ألقتها ليسنغ في الإذاعة الكندية
... تتساءل دوريس في محاضرتها الأولى بعنوان "عندما ينظرون إلينا من المستقبل"
عن سبب ارتداد الإنسان خلال لحظات معينة من تاريخه الحديث، إلى السلوك الهمجي البدائي
في تصرفاته، رغم إن ما نجمعه عن أنفسنا من معرفة ومعلومات كأفراد وجماعات بواسطة العلوم
الحديثة التي تقوم بها جامعات ومعاهد وأفراد، تختص بدراسة سلوكيات الإنسان وتصرفاته،
تفوق ما عرفه الناس فيما مضى عن أنفسهم، ولكن مع هذا التطور تبقى الطرق التي نحكم بها
أنفسنا وتصرفاتنا لم تتغير.
كذلك
نستغرب ونستنكر من أحداث مأساوية ومخجلة يرويها لنا التاريخ، ونعتبرها بدائية تُخبر
عن جهل وحماقة فاعليها. ولكننا في لحظة من لحظات هذا العالم الحديث والمتطور نعيد ونكرر
تلك الأفعال والسلوكيات؟!
فمثلاً
حتى يفهم الشباب وغيرهم ممن لم يقرأوا التاريخ، ما تحدث عنه سائق التكسي، وما جرى من
أحداث التهجير والاعتداء الطائفي التي حدثت بعد عام ٢٠٠٣ (بشكل علني)، لابد من استرجاع
التاريخ واستحضاره، فلدينا إرث مظلم يحكي عن اعتداءات وتجاوزات مارسها أبناء المجتمع
فيما بينهم بطوائفهم المختلفة. أذكر هنا حادثتين من مجمل حوادث امتدت لأكثر من ثلاثمئة
سنة، مثلت الصراع بين السنة والشيعة ترويها كتب التاريخ.
في كتابه
(الكامل في التاريخ) ينقل ابن الأثير الجزري:
"في
سنة ٤٤١ هـ مُنع أهل الكرخ من النوح وفعل ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء، فلم يقبلوا،
وفعلوا ذلك، فجرى بينهم وبين السنة فتنة عظيمة، قتل فيها وجرح كثير من الناس، وبطلت
الأسواق وزاد فيها الشر حتى انتقل كثير من الجانب الغربي (الشيعة) إلى الجانب الشرقي
(السنة) فأقاموا فيه"
"في
سنة ٤٤٥ زادت الفتنة بين أهل الكرخ وغيرهم من السنة.... فلما اشتد الأمر اجتمع القُواد
واتفقوا على الركوب إلى المحال وإقامة السياسة بأهل الشر والفساد، وأخذوا من الكرخ
إنسانًا علويًا وقتلوه، فثار نساؤه ونشرن شعورهن واستغثن، فتبعهن العامة من أهل الكرخ
وجرى بينهم وبين القُواد ومن معهم من العامة قتال شديد، وطرح الأتراك النار في أسواق
الكرخ، فاحترق كثير منها وألحقتها بالأرض، وانتقل كثير من الكرخ إلى غيرها من المحال"
هذين
الحدثين إذا أمكن وصفهما (بالتهجير قديمًا) مع أحداث أخرى تمتد لسنوات تفوق المئة،
تشكل تاريخًا؛ تمثل ضرورة استحضاره لحظة مهمة لفهم ما حدث بعد ٢٠٠٣ خصوصًا أحداث التهجير
والاعتداءات الطائفية. هذا الميراث هو ما ينبغي دراسته كما تؤكد دوريس ليسنغ. استحضار
التاريخ ليس لإحياء ذكرى الاستبداد والطغيان، بل للتعرف على الاستبداد والطغيان في
الوقت الحالي، وسبب وجود واستمرار هذه السلوكيات والانماط فينا؟
تقول
ليسنغ: "أتصور أنه عندما ينظر الناس إلى زماننا من المستقبل، فأكثر ما سوف يتعجبون
له هو أننا "نعرف" عن أنفسنا الآن أكثر مما عرفه الناس فيما مضى، ولكن قدرًا
ضئيلًا من هذه المعرفة يوضع موضع التنفيذ؟!"

تعليقات
إرسال تعليق