أدب الصيف 1

يكتب الدكتور طه حسين: "قيظ الصيف مرهق لا يصهر الأبدان وحدها، ولكنه يصهر معها العقول، ولعله يصهر مع العقول والأبدان بعض الأخلاق أيضًا، فيدفع قومًا من الأمر إلى ما لم يكونوا ليُدفعوا إليه لو لم يشتد القيظ على أبدانهم وعقولهم وأخلاقهم، فيمنعهم من الأناة والمهل، ومن التفكير والتروية، ومن ضبط النفس وتسليط العقل على الإرادة حين يعملون أو يقولون".
قضيت يومين في بغداد لاحظت وبسبب ارتفاع درجة الحرارة، حالة هستيرية وانفلاتًا غير طبيعي ممن شغله بتماس مباشر مع الشمس (شرطة، مرور، باعة متجولون، وخاصة سواق سيارات العتبة الكاظمية). هذه الحالة لم أشاهد مثيلًا لها في البصرة، رغم الفارق بين ما تسجله المدينتين بدرجات الحرارة من حيث شدتها وقسوتها؟!

 

في عام ١٩٣٥ كتب طه حسين مقالًا بعنوان "أدب الصيف" يقارن فيه بين الصيف في أوربا والصيف في مصر. وكيف يتناول كُتاب وشعراء وأدباء كلا الجانبين هذا الطور من حياتهم وحياة قراءهم، كذلك كيف يستقبل عامة الناس هذا الفصل وخاصة الطلبة وعوائلهم، بعد انتهاء العام الدراسي.
يذكر العميد أن الصحف الغربية تمتلئ في هذا الفصل (بأدب الصيف، أو أدب الإجازة، أو أدب الراحة والاستجمام).
فالكاتب مدين لنفسه ولقرائه بالرفق، "وأن يتحدث إلى عقولهم اليقظة المفكرة، لا في أن يكون سبيلهم إلى الضجر والسأم، أو إلى الفتور والنوم!"
الأدب الصيفي الذي يشغل الكتّاب الغربيون، هو أدب لا يجهد القارئ…
تصوير ووصف لحياة السواحل ومدن الماء، وألوان اللهو الذي يبتكره المصطافون.
أما الكُتاب المصريون ماذا يشغلهم في فصل الصيف؟
يقول العميد؛ شيئان:
الأول: "موسم الامتحانات وما يثير من ضجيج وعجيج، ونقد للأسئلة ولوم السائلين".
الثاني: مصايف البحر وما تثيره من سخط تمتلئ به نفوس المتحرجين، الغاضبون للحياء والاخلاق.
يعيب طه حسين على هؤلاء الكتاب بأنهم لا يرفقون بأنفسهم، ولا يرفقون بقراءهم، ولا يراعون هذا الفصل وما يسببه من اجهاد للعقل، والبدن، والاخلاق.
فهم يكتبون في الصيف كما يكتبون في الشتاء!

 

وبما أن الحال المصري -وهذا رأيي- يشابه الحال العراقي، لذلك على كتابنا، وخاصة في الفيس بوك والإعلام، مراعاة هذا الفصل، والرفق بالناس وعدم تهيج مشاعرهم بطريقة تزيد في شحن الوضع وجعله أكثر سلبية، لأن الحر وصل بهم مرحلة أفقدهم السيطرة والتحكم، وأخرج أسوأ ما فيهم!

 

صحيح أن هذه البلاد، لا تتيح لمواطنيها فرصة يأخذوا فيها نفس ويشعروا بوجودهم الآدمي، بلاد تجرد في كل يوم ساكنيها من كل ما هو إنساني، لكن على الكتّاب الانتباه، والعمل على الأقل بما كان يعمل به كتّاب الأدب الصيفي في فرنسا حيث إذا أقبل الصيف ولم يجدوا ما يكتبون عن بلادهم كتبوا عن البلاد الأخرى.  
وقد تنبه العميد لذلك وأخذ عهدًا على نفسه بما نصه "على أني مجتهد منذ الآن في أن أغير للقراء من أحاديث الصيف؛ لعلي أعينهم وأعين نفسي على احتماله حتى تنجلي عنا غمرته، ولهم عليّ ألّا أحدثهم في موضوع واحد مرتين حتى تنقضي هذه الأشهر الطوال".
وللحديث بقية...

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ضرورة استحضار التاريخ

أدب الصيف 2