عربة طفلي والرصيف
ما يلفت الإنتباه ويثير الدهشة في عالم يتسم بسمات (ما بعد حداثية) بأسلوب وطريقة معيشته وإدارته، أن نشهد ونعيش ظاهرة غياب الرصيف من الشارع، في مدننا المختلفة ومن الملاحظ أنها
ظاهرة تعاني منها أغلب البلدان العربية...
الرصيف حاجة ضرورية وحق من حقوق المواطنة والعيش في أي بلد وغيابه أو التجاوز عليه يعني انتهاك لهذه الحاجة وهذا الحق!
شخصياً من عشاق المشي كوسيلة للتنقل، ولا أفضل ركوب السيارة إلا للمسافات الطويلة جداً، ومنذ كان عمري تقريباً 10 سنوات دائماً ما كنت أذهب إلى سوق البصرة القديمة أو إلى العشار، من البيت مشياً، وكانت مدة المسافة تستغرق تقريباً ساعة أو أكثر، وبقيت مواضباً على هذا النشاط حتى أيام الدراسة الجامعية، ومن محاسن الصدف أن الجامعة كانت لا تبعد كثيراً عن بيتنا، فأستثمر إنتهاء محاضراتي قبل محاضرات اصدقائي -الذين لا يحبون المشي ودائماً ما يعارضوني في الذهاب مشياً إلى الجامعة، بحجة التأخر عن المحاضرات، فكنت دائماً ما أرضخ لخياراتهم والذهاب بواسطة التكسي- لأعود مشياً إلى البيت.
ولهذا كان أحب الأوقات وأفضلها عندي للمارسة نشاط المشي، فصل الشتاء حيث الشمس الدافئة والهواء البارد المصحوب بالمطر أحياناً، بعكس فصل الصيف اللاهب في البصرة والذي رغم حرارته العالية لم أترك المشي كوسيلة مفضلة للتنقل.
ولكن رغم كل تفضيلي للمشي وشهرتي بين أفراد العائلة والأصدقاء بهذا الفعل -حتى اني عودت زوجتي على المشي رغم معاناتها معي في بادىء الأمر حيث كانت تشتكي التعب والألم في قدميها، إلا أنها اعتادت على المشي بعد ذلك، وخاصة عند الذهاب إلى بيتهم لقرب منطقة سكنى أهلها من منطقتنا- كنت كثيراً ما أعاني من الطريق وعدم وجود أرصفة مخصصة للمشي تحترم كياني وذاتي وحقي في هذا الحيز من الوجود لممارسة هذا الفعل، بسبب تجاوز أصحاب المحلات عليها بعرض بضائعهم أمام المارة، أو تجاوز أصحاب البيوت من خلال استغلال الرصيف كموقف للسيارات او إخراج واجهة البيت إلى الأمام لتوسعة مساحته، أومن قبل أصحاب مواكب العزاء الخاصة بالمناسبات الشيعية. ومن غير إهمال المؤسسات الحكومية المختصة لبقية الارصفة وتركها جرداء عارية إلا من الأتربة، يصعب المشي عليها بسبب تموجاتها أو بسبب وضع الإعلانات التجارية بطريقة خاطئة ومشوهة، مما يَصعب على السابلة أو الدراجات الهوائية أو عربات الأطفال وما شابه ذلك من وسائل النقل الخفيفة، التنقل من خلال الرصيف الذي وجد ليؤدي غرض إنساني معين.
وعلى ذكر عربات الاطفال...
بعد مرور سنة من زواجي ولد لنا طفل، فاقترحت علي زوجتي أن نشتري له عربة أطفال لينظم إلينا في عادة المشي التي أعتدناها. ورغم معارضتي لشراء عربة لمعرفتي مسبقاً أننا سنعاني بقيادتها في شوارع لا تحترم الآدامي ولا توفر له أدنى مقومات الراحة والسلامة، وهنا بدأت المعاناة التي لو وجدت وسيلة أكثر تأثيراً وعمقاً من الكتابة في التعبير عنها لعبرت.
في يوم من الأيام قررنا ليلاً أن نخرج بصحبة ولدنا وعربته لمنطقة قريبة عن منطقتنا للتنزه، وعند خروجنا من المنزل وطوال الطريق المؤدي الى تلك المنطقة لم نستطع المشي على الرصيف، لكثرة التجاوزات، خاصة من أصحاب محلات بيع الأثاث (شارع كازينو لبنان) وبعد أن وصلنا لنهاية الطريق بشق الأنفس، لم نستطع عبور التقاطع لعدم وجود مكان مخصص للعبور، وأرتفاع الرصيف عن الشارع العام مسافة لا تمكننا من السير مع العربة، فقررت أن نسلك شارعاً فرعياً يسهل علينا العبور، ولكن عند دخولنا الشارع وإذا بنا نصطدم بشارع ترابي خالي من الأضاءة يصعب على عجلات العربة السير عليه، وفي هذه الأثناء خرج لنا من بين السيارات المتوقفة جانباً مجموعة كلاب متوحشة جعلت منظرنا لا يُتخيل ولا يوصف؟!
هذا الموقف من المواقف عشتها أوعاشها آخرون، ونحن نمارس حقنا الطبيعي في المشي، لكن هذا اثار لدي التساؤل التالي ...
لماذا هذا حال شوارعنا؟ ولماذا هذه الهوة التي يعيشها المواطن مع مدينته، مقارنة بمدن العالم المتطور؟
في الدول المتقدمة جرى ردم الهوة بين تقدم الإنسان وتقدم المدينة من خلال تنشئة الأجيال على كيفية أستخدام الشوارع ووسائل النقل، وما أن تكبر هذه الأجيال وتشب حتى تكون العلاقة بينها وبين مدنها علاقة بسيطة غير معقدة. أما في مدننا العربية فإنها تقدمت بفعل التحديث المُسرع، بينما بقي الإنسان العربي دون تطور يواكب تطور المدن، بسلوكيات متأخرة غير متطابقة مع هذا التحديث والتطور العمراني، وربما أن التحديث والتطور العربي لم يخلو من فكرة سياسية تسلطية وقمعية مارستها السلطات الديكتاتورية لفرض سيطرتها وتسلطها، جرى من خلالها تحديث المدن لا من أجل الحداثة بل خوفاً من أي عبث يطال السلطة من الناس، ولكن هؤلاء الناس لم يجري تحديثهم بل جعلوهم تابعين خاضعين من خلال تحديث المدن والعمران فقط؟
غياب ثقافة الرصيف والشارع تكشف لنا التوازن المفقود بين المدينة الحديثة والإنسان العربي المتلبس بالحداثة.
قرأت مقالاً يصف الأرصفة في شوارع المدن المتقدمة وخاصة الغربية وكيف تعامل المهندس الغربي مع الشارع وصير أجزاء كبيرة منه في خدمة سالكيه، "فتبليطها لا يخدش الاقدام المحتذية أو العارية، خالية من النتوءات أو العقد أو المطبات، مبلطة بحجر ملون ومخططة بإشارات أرضية تهدي المارة الى مساربها المختلفة، خالية من التلوث الذي يخدش البصر، وفي كل منعطف لها تنحني الارصفة بمنخفض بسيط يسهل إنسياب الدراجة وكرسي المعاقين وعربات الاطفال، وبعض الشوارع أضيف لأرصفتها مكاناً خاصاً لسير الدراجات الهوائية، وزينت بعضها بأشجار وظلال ووضعت لافتات ترشد من يضيع." كل ذلك جرى لحساب أن ياخذ الرصيف مكانته الحقيقية في حداثة المدن.
صور توضيحية:

الفرق بين الوضع الطبيعي للرصيف في الصورة أعلاه والحال في مدننا


في هذه الصورة يظهر فندق البصرة، جرى تشيده مؤخراً ويقال أنه تابع لأحد المسؤولين في المحافظة. شاهدوا كيف تم إلغاء الرصيف والتعدي على وظيفته العمرانية!
صور توضيحية أخرى لظاهرة التعدي على الرصيف



مدخل شارع الكويت في العشار

جانب من الشارع الرئيسي لسوق البصرة القديمة
الرصيف حاجة ضرورية وحق من حقوق المواطنة والعيش في أي بلد وغيابه أو التجاوز عليه يعني انتهاك لهذه الحاجة وهذا الحق!
شخصياً من عشاق المشي كوسيلة للتنقل، ولا أفضل ركوب السيارة إلا للمسافات الطويلة جداً، ومنذ كان عمري تقريباً 10 سنوات دائماً ما كنت أذهب إلى سوق البصرة القديمة أو إلى العشار، من البيت مشياً، وكانت مدة المسافة تستغرق تقريباً ساعة أو أكثر، وبقيت مواضباً على هذا النشاط حتى أيام الدراسة الجامعية، ومن محاسن الصدف أن الجامعة كانت لا تبعد كثيراً عن بيتنا، فأستثمر إنتهاء محاضراتي قبل محاضرات اصدقائي -الذين لا يحبون المشي ودائماً ما يعارضوني في الذهاب مشياً إلى الجامعة، بحجة التأخر عن المحاضرات، فكنت دائماً ما أرضخ لخياراتهم والذهاب بواسطة التكسي- لأعود مشياً إلى البيت.
ولهذا كان أحب الأوقات وأفضلها عندي للمارسة نشاط المشي، فصل الشتاء حيث الشمس الدافئة والهواء البارد المصحوب بالمطر أحياناً، بعكس فصل الصيف اللاهب في البصرة والذي رغم حرارته العالية لم أترك المشي كوسيلة مفضلة للتنقل.
ولكن رغم كل تفضيلي للمشي وشهرتي بين أفراد العائلة والأصدقاء بهذا الفعل -حتى اني عودت زوجتي على المشي رغم معاناتها معي في بادىء الأمر حيث كانت تشتكي التعب والألم في قدميها، إلا أنها اعتادت على المشي بعد ذلك، وخاصة عند الذهاب إلى بيتهم لقرب منطقة سكنى أهلها من منطقتنا- كنت كثيراً ما أعاني من الطريق وعدم وجود أرصفة مخصصة للمشي تحترم كياني وذاتي وحقي في هذا الحيز من الوجود لممارسة هذا الفعل، بسبب تجاوز أصحاب المحلات عليها بعرض بضائعهم أمام المارة، أو تجاوز أصحاب البيوت من خلال استغلال الرصيف كموقف للسيارات او إخراج واجهة البيت إلى الأمام لتوسعة مساحته، أومن قبل أصحاب مواكب العزاء الخاصة بالمناسبات الشيعية. ومن غير إهمال المؤسسات الحكومية المختصة لبقية الارصفة وتركها جرداء عارية إلا من الأتربة، يصعب المشي عليها بسبب تموجاتها أو بسبب وضع الإعلانات التجارية بطريقة خاطئة ومشوهة، مما يَصعب على السابلة أو الدراجات الهوائية أو عربات الأطفال وما شابه ذلك من وسائل النقل الخفيفة، التنقل من خلال الرصيف الذي وجد ليؤدي غرض إنساني معين.
وعلى ذكر عربات الاطفال...
بعد مرور سنة من زواجي ولد لنا طفل، فاقترحت علي زوجتي أن نشتري له عربة أطفال لينظم إلينا في عادة المشي التي أعتدناها. ورغم معارضتي لشراء عربة لمعرفتي مسبقاً أننا سنعاني بقيادتها في شوارع لا تحترم الآدامي ولا توفر له أدنى مقومات الراحة والسلامة، وهنا بدأت المعاناة التي لو وجدت وسيلة أكثر تأثيراً وعمقاً من الكتابة في التعبير عنها لعبرت.
في يوم من الأيام قررنا ليلاً أن نخرج بصحبة ولدنا وعربته لمنطقة قريبة عن منطقتنا للتنزه، وعند خروجنا من المنزل وطوال الطريق المؤدي الى تلك المنطقة لم نستطع المشي على الرصيف، لكثرة التجاوزات، خاصة من أصحاب محلات بيع الأثاث (شارع كازينو لبنان) وبعد أن وصلنا لنهاية الطريق بشق الأنفس، لم نستطع عبور التقاطع لعدم وجود مكان مخصص للعبور، وأرتفاع الرصيف عن الشارع العام مسافة لا تمكننا من السير مع العربة، فقررت أن نسلك شارعاً فرعياً يسهل علينا العبور، ولكن عند دخولنا الشارع وإذا بنا نصطدم بشارع ترابي خالي من الأضاءة يصعب على عجلات العربة السير عليه، وفي هذه الأثناء خرج لنا من بين السيارات المتوقفة جانباً مجموعة كلاب متوحشة جعلت منظرنا لا يُتخيل ولا يوصف؟!
هذا الموقف من المواقف عشتها أوعاشها آخرون، ونحن نمارس حقنا الطبيعي في المشي، لكن هذا اثار لدي التساؤل التالي ...
لماذا هذا حال شوارعنا؟ ولماذا هذه الهوة التي يعيشها المواطن مع مدينته، مقارنة بمدن العالم المتطور؟
في الدول المتقدمة جرى ردم الهوة بين تقدم الإنسان وتقدم المدينة من خلال تنشئة الأجيال على كيفية أستخدام الشوارع ووسائل النقل، وما أن تكبر هذه الأجيال وتشب حتى تكون العلاقة بينها وبين مدنها علاقة بسيطة غير معقدة. أما في مدننا العربية فإنها تقدمت بفعل التحديث المُسرع، بينما بقي الإنسان العربي دون تطور يواكب تطور المدن، بسلوكيات متأخرة غير متطابقة مع هذا التحديث والتطور العمراني، وربما أن التحديث والتطور العربي لم يخلو من فكرة سياسية تسلطية وقمعية مارستها السلطات الديكتاتورية لفرض سيطرتها وتسلطها، جرى من خلالها تحديث المدن لا من أجل الحداثة بل خوفاً من أي عبث يطال السلطة من الناس، ولكن هؤلاء الناس لم يجري تحديثهم بل جعلوهم تابعين خاضعين من خلال تحديث المدن والعمران فقط؟
غياب ثقافة الرصيف والشارع تكشف لنا التوازن المفقود بين المدينة الحديثة والإنسان العربي المتلبس بالحداثة.
قرأت مقالاً يصف الأرصفة في شوارع المدن المتقدمة وخاصة الغربية وكيف تعامل المهندس الغربي مع الشارع وصير أجزاء كبيرة منه في خدمة سالكيه، "فتبليطها لا يخدش الاقدام المحتذية أو العارية، خالية من النتوءات أو العقد أو المطبات، مبلطة بحجر ملون ومخططة بإشارات أرضية تهدي المارة الى مساربها المختلفة، خالية من التلوث الذي يخدش البصر، وفي كل منعطف لها تنحني الارصفة بمنخفض بسيط يسهل إنسياب الدراجة وكرسي المعاقين وعربات الاطفال، وبعض الشوارع أضيف لأرصفتها مكاناً خاصاً لسير الدراجات الهوائية، وزينت بعضها بأشجار وظلال ووضعت لافتات ترشد من يضيع." كل ذلك جرى لحساب أن ياخذ الرصيف مكانته الحقيقية في حداثة المدن.
صور توضيحية:

الفرق بين الوضع الطبيعي للرصيف في الصورة أعلاه والحال في مدننا


في هذه الصورة يظهر فندق البصرة، جرى تشيده مؤخراً ويقال أنه تابع لأحد المسؤولين في المحافظة. شاهدوا كيف تم إلغاء الرصيف والتعدي على وظيفته العمرانية!
صور توضيحية أخرى لظاهرة التعدي على الرصيف



مدخل شارع الكويت في العشار

جانب من الشارع الرئيسي لسوق البصرة القديمة
تعليقات
إرسال تعليق