فتوة الناس الغلابة

يقال " ليس هيّناً أن تتجاوز ذاكرة شخص ما، صورة المكان الذي ولد وعاش فيه. محاولةً الاحتفاظ بصورة ذلك المكان القديم دائماً مهما طرأ عليه من تغيير ودمار ..."

جدير بالإشارة أن واحدة من أسباب تغير ودمار الأماكن ومحوها هي الحروب وآثارها، وليس غريباً على بلد مثل العراق والذي ما أنفك يوماً عن خوض الحروب واختلاقها أن تُدمر أمكنته لتُمحى وتتشكل أماكن جديدة بتفاصيل قد لا تنسجم مع واقعه وبيئته. تشكلها الأموال والجهل وفقدان الذائقة الجمالية، وما يترتب عن ذلك من تحولات تطرأ على المجتمع وتنعكس على شخصية المدينة وعمارتها بالتحديد.

قبل أيام شاهدت فيلماً مصرياً من تأليف واخراج نيازي مصطفى بعنوان (فتوة الناس الغلابة) يمثل الفنان فريد شوقي دور الكتبي العم كمال صاحب مكتبة لبيع الكتب والمجلات القديمة، يضطر للدخول في مواجهة مع سيد مالك المحل والذي يشتغل جزاراً في نفس المنطقة، لأنه يسعى لإخراجه من المكتبة وتحويلها محل لبيع الملابس. الغريب والملفت أن العم كمال يخسر المواجهة لأن القانون والدولة تقف مع سيد ضده غير مقدرين ولا مهتمين لضرورة وجود المكتبة والكتب وارتباطها الأثري بهذا المكان. فمن جهة جهل وجشع سيد وهمه في الحصول على المال ولا مبالات المؤسسات الرسمية في أهمية هذا المكان من جهة اخرى. كلها جعلت العم كمال يفقد الأمل في الحفاظ على مكتبته، لولا ألتفاتة ذكية وساخرة من المؤلف والمخرج في آن والتي تنم وتكشف عن أن الحلول في مثل هذه الأوضاع ستكون خيالية ووهمية لعدم جدوى القانون ومؤسسات الدولة المعنية في الحفاظ على معالم البلاد وآثارها، وضعفها أمام الجشع والاستثمار المصحوب بخلطة من الجهل والتخلف...


وبعد مرور أيام والعم كمال كعادته جالس في باب المكتبة يائس، جاءه شاب وشابة يريدان بيع مكتبة جدهما. فيرفض العم كمال شرائها مبرراً ذلك بحالته المادية وضعف سوق الكتب ووضع المكتبة المهددة بالبيع، وبعد إلحاح الشابين وافق العم كمال على شراء المكتبة، على أن يسدد مبلغ الكتب كلما باع مجموعة منها. فانفتح للعم كمال باباً آخر للمواجهة يتمثل بعلمه أن الشابين يريدان بيع مكتبة جدهما وإخلاء قصره الأثري لتحويله الى مكان استثماري تجاري.

وهنا يأتي دور المخرج في حله الخيالي الوهمي...

في أحد الأيام عثر العم كمال بين الكتب التي أخذها من الشابين على قلادة سحرية تعود لجدهما، من يرتديها يصير متخفياً، ويقوم العم كمال باستخدامها لأجل مساعدة كل من وقع عليه ظلماً في المنطقة. فكانت الفرصة سانحة للنيل من صاحب المحل سيد وكذلك منع الشاب والشابة من بيع وهدم قصر الجد. لا أريد أن أفسد الفيلم ففيه اشارات وتلميحات تمس الواقع بإمكانكم الاستمتاع بمشاهدته، لكن بالعودة لواقعنا العراقي، دائماً ما أتذكر هذا الفيلم والعم كمال وأنا أرى الهدم الممنهج لمعالم البلد لتحل ملحها مبانٍ استثمارية بتصاميم وطرز تفتقد للذوق ولأدنى عنصر من عناصر الجمال. مع غياب كامل للمسؤولية الحكومية والمؤسساتية؟ فذاكرتنا ما عادت تحتمل حفظ صور الأماكن التي تم هدمها أو تحويلها إلى محلات أو مولات.



فمثلاً في هذه الصورة تظهر السينما الصيفية في مقر نادي الميناء الرياضي وما حل بها بسبب الإهمال    







وهنا تظهر سينما الكرنك في العشار قرب ساحة أم البروم أثناء عملية الهدم، ليشيد مكانها مول تجاري بقي إلى هذه اللحظة غير داخل بالخدمة بسبب أخطاء ونقوصات بالتصميم والإدارة!







هذا المول التجاري أصبح بديلاً لسينما الكرنك




سينما أطلس والوطني أيضاً تم إزالتهما وبناء مولات تجارية، لم أتمكن من اخذ صورة للموقع الحالي


 

والغصة الأكبر هي، بهو الإدارة المحلية حيث كان مسرحاً ثقافياً لكثير من الفعاليات والمهرجات التي كانت تحتضنها محافظة البصرة، لم أعثر إلا على هذه الصورة البعيدة وغير الواضحة، يظهر حجم الإهمال والدمار بعد عام 2003 قبل أن يتم هدمه





مول بصرة تايمز سكوير هذا ما تم بناءه مكان بهو الإدارة المحلية







ما عرضته في الصور هو قطرة من بحر ما تم هدمه أو إهماله من معالم وآثار ونُصب فنية في عموم العراق والبصرة خاصة، تجعلنا نتمنى ونصدق بالحل السحري والخيالي الذي أقترحه المخرج، وأن يكون لدينا العم كمال صاحب القلادة السحرية عسى أن يكون منقذاً لما بقي من آثار وشواهد وهي تصارع في بقاءها الزمن، وإهمال الحكومة، وجهل الناس.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ضرورة استحضار التاريخ

أدب الصيف 2

أدب الصيف 1