هل نحن مجبرون بالحديث عن السياسة ؟

ملحوظة: أنا لست مثالياً، فالواقع واشتراطاته لا يعطيك هذا الأمتياز الطوباوي، لكني منذ مدة أحاول أن أكون مميزاً في تصرفاتي وأفعالي...

شيء آخر منذ مدة أيضاً وأنا أحاول أن أكون فرداً صالحاً منتجاً قدر المستطاع في عالم يسوده الكسل والإتكالية واللامبالاة، حتى أصبحت الحياة أيامها عبارة عن "تكراً للتكرار" في مسعاي هذا أنجح أحياناً وافشل في أحايين كثيرة؟!

واحدة من الأمور التي ألزمت بها نفسي هي مشاركة زوجتي أغلب ما أقرأ وأكتب، خلافاً للروتين الممل السائد لدى أغلب علاقتنا العائلية. وربما تُعتبر هذا السلوك مثالياً، وكما ذكرت أنا لست مثالياً لكني أؤمن بأن المرأة ليست ملزمة بأن تكون خادمة في البيت (تطبخ وتنفخ وتربي وتغسل وتنظف) ولا أؤمن بالأعراف الاجتماعية التي تعيب على الرجل أخذ دور المرأة في الحياة وهذا مبدأ طبقته حرفياً مع زوجتي، إلا الأعمال التي هي من اختصاص المرأة حصراً وذلك بطبيعتها الفطرية والبايلوجية، وربما وضعني هذا السلوك في موضع التندر والإستنكار.  

وجرياً على هذا الإلزام ومنذ فترة، هي وأنا نتشارك قراءة كتاب (هكذا مرت الأيام) لبلقيس شرارة زوجة المعمار رفعة الجادرجي، ولمن لا يعرف محتوى هذا الكتاب هو عبارة عن مذكرات كتبتها بلقيس أثناء مرض رفعة كما تذكر هي في هذه المذكرات.

                       


أحب هذا النوع من الكتب (كتب المذكرات) لأنها تكشف لنا المخفي والهامشي في الحياة والمجتمع، وتوفر لنا مشاهدة الحياة من زوايا مختلفة بعيون أُناس متعددين ومختلفين.

استمتعنا ونحن نقرأ هذه المذكرات عن عراق الاربعينيات والخمسينيات والستينيات، عن المجتمع والسياسة. وأخذنا نقارن الفرق الشاسع والتحول الذي نعيشه في عراق اليوم. المجتمع وسلوكياته واهتماماته. السياسة والصراعات الأيديولوجية.

لا أخفيكم أن إلتزامي مع زوجتي لدرجة، جعلني لا أتجرأ أن أقرأ من الكتاب شيء، أنتظرها تعود إلى المنزل لنعاود القراءة من جديد. 
قبل يوم كنا هي وأنا نقرأ، حيث طال حديث بلقيس بأمور السياسة وأحوال الناس وكان حديثها يسوده نوعاً من التشائم والقتامة، فقاطعتني زوجتي قائلة: "شنو، شو صار كلامها كله سياسة بالبداية جانت تسولف عنها وعن عائلتها والمجتمع بشكل عام، اهتماماتهم حياتهم الشخصية تجاربهم"؟ّ

الأجابة على هذا السؤال بلا شك سوف تجرنا وتدخلنا في السياسة والحديث الروتيني اليومي والممل الذي لا يخلوا منه مجلس أو تجمع أو أي مكان يتاح لأغلب العراقيين الفرصة للتحدث فيه.


فأجبتها إجابة عن قناعة شخصية. قلت لها: ما كانت تتكلم عنه بلقيس وأعجبك، حدث في الأربعينيات والخمسينيات. أيام كانت أهتمامات المجتمع متعددة ولم تكن للسياسة تلك المساحة الكبيرة من أهتمامتهم. رغم أن بلقيس تحدثت عن السياسة آنذاك، لكن حديثها عنها كان ثانوياً. أما حديثها عن الستينيات وما بعدها فكان أغلبه سياسياً، نظراً للتحولات التي شهدتها المنطقة العربية بسقوط الملكيات وإعلان الجمهوريات وصعود العسكرتاريا والديكتاتوريات وتسيدها لأنظمة الحكم وتسلطها على رقاب الناس.

برأيي أفسدت هذه الانظمة "النسيج الاجتماعي" وهيأت الأجواء والظروف لما نعيشه اليوم، سيست الحياة عامة، وجعلت من أجساد الشعوب قنابل موقوتة تنتظر الوقت لتفجر نفسها ضد المتآمرين والامبريالية العالمية وجيوشها المحتلة، وزرعت في النفوس هاجس الخوف والقلق الدائم. فأضحت الحياة عندنا عبارة عن حرب مقدسة، وقيمة الفرد ليس بالعيش الكريم والحياة الحرة، بل بالاستشهاد والموت في سبيل الوطن والقادة.  

أما بخصوص فساد النسيج الاجتماعي الذي أشرت له، فقد شاهدت لقاء لـ اللواء المصري عبدالحميد عمران وقد اشار إلى هذا المصطلح واصفاً به ثورة عام 1952 في مصر والتي أُعلنت فيها قيام الجمهورية المصرية على يد جمال عبدالناصر. يقول اللواء عبدالحميد: إن الثورة شرّعت فساد هذا النسيج وألغت التخصص، وأُتخذ قراراً آنذاك بأن العمال شركاء في مجلس الإدارة وأصبح العامل صاحب التعليم المتدني والأفق الضيق يشارك رئيس مجلس الإدارة القرارات، بل احيانا يقول له ان قرارك خاطئ وقراري هو الصحيح. 
 "طبعاً لا يقصد اللواء الانتقاص من هذه طبقة، بل يعترض على طريقة إشراكهم في أتخاذ القرارات دون تأهيل علمي ومهني يسمح لهم بذلك".

لا يخفى على القارئ أن الحكومات الديكتاتورية تتخذ مثل هذه القرارات ليست مراعاة لمصلحة الشعب والبلد ولا حباً بطبقة العمال، بل مراعاة لمصالحها وسعياً لكسب التأييد الشعبي والجماهيري لها وخصوصاً من هذه الطبقة التي تشكل الغالبية العظمى من الشعب.

وبالعودة لحديثي مع زوجتي، قلت لها هذا ما حصل أيضا في العراق، فإن لم تكن ثورة 1958 افسدت النسيج الأجتماعي، فقد كانت سبباً في إفساده، نظراً لما جرى بعدها من إنقلابات وفساد وتسلط التافهين والمنبوذين على رقاب الناس والتحكم بمصيرهم ومصير البلد بالكامل!

تروي لنا بلقيس مشهدا مروعاً ومخجلاً عما آلت إليه الأمور أبان تسلط حزب البعث على السلطة، فقد اقصيت الكثير من الكفاءات العلمية والمهنية من مناصبها في البلاد وزج بها في الزنازين وعذب القسم الآخر ونُكّل به أشد تنكيل، تروي بلقيس في هكذا مرت الايام كيف تعامل عبدالسلام عارف مع رفعة حين انقلب على عبدالكريم قاسم وتسلم قيادة الحكم حيث قام بتجميد اموال رفعة ومنعه من السفر وسحب المشاريع المعمارية التي كانت قد احيلت على المكتب الأستشاري العراقي، بسبب موقف رفعة من عبدالسلام في مجلس الوزراء قبل الأنقلاب، عندما كان يتدخل عبدالسلام في القضايا الفنية والتقنية، فكان يجيبه عبدالكريم قاسم بالقول: إن هذه القضايا فنية وكان يؤيد رفعة فيها. ولم تسلم بلقيس نفسها من الفصل بعد أن جمدوها عن العمل لمدة طويلة إذ تقول: طبالرغم من عدم وجود أية ادلة تسهل لهم فصلي من العمل. ولكن كان نوع من الإنتقام والثأر، لا لسبب، سوى لانني أبنة محمد شرارة!

وتذكر أيضاً أنها بعد ذلك كانت تذهب هي وأم رفعة زوجها، لزيارة سجن النساء وتفقد من أُلقي القبض عليهن من بين الطبقة المثقفة من نساء العراق آنذاك...كان من بينهن هناء برتو مدرسة تصميم الأزياء، التي لم يمر على عودتها من سويسرا بعد تخصصها في تصميم الأزياء، اكثر من عام ونصف، كانت إمرأة في غاية الرقة والجمال، لم تبلغ عامها الخامس والعشرين، وكانت حامل في شهرها الثالث. ثم تقول: عدت من تلك الزيارة وصور النساء اللواتي يمثلن صفوة المجتمع العراقي لم تفارقني مثل الكابوس وهن يقبعن في السجن. خسرت جميع النساء اللواتي أعتقلن في سجن بغداد وظائفهن بالفصل او الإحالة على التقاعد، بعد أطلاق سراحهن، عندما كان العراق في أمس الحاجة لخدماتهن؟!

وهكذا تحول الحديث لا إراديا مع زوجتي ومعك عزيزي القارئ إلى السياسة فنحن مجبورين بذلك، والسبب ربما هو فساد النسيج الاجتماعي وإقصاء المثقفين والمختصين وإبدالهم بمن هم أقل خبرة وكفاءة منهم وفق مبدأ المحسوبية والأنتماءات الحزبية. فلو كان النظام السياسي صالحاً، لما أخذت وتأخذ السياسة والحديث والجدل فيها وعنها جل وقتنا. وربما سنكف عن الحديث في السياسة، حالما ينصلح هذا النسيج الفاسد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ضرورة استحضار التاريخ

أدب الصيف 2

أدب الصيف 1