الهامش (المكان), وقضايانا الكبرى

يقول فنسنت فان كوخ في إحدى رسائله إلى أخيه ثيو: "التفاصيل الصغيرة في هذا المكان مكلفة أكثر من الأشياء الكبيرة الواضحة، لأنها أشياء عملية وعليها ترتكز الكثير من الأمور"

في حدود عالمنا الذي نعيشه "عالمنا العراقي" دائماً ما كانت تشغلنا "القضايا الكبرى"على اختلاف مرجعياتها، أبرزها قضايا (الدين والوطن) لذلك تجد معظم نتاجاتنا الادبية والفكرية تدور بهذا المساحة وتتخذ منها مادة أساسية للكتابة مادة الدين، والسياسة، وقضايا الوطن، ناهيك عن أحاديثنا العامة والخاصة. فلم تدع لنا هذه القضايا فرصة الإلتفات إلى التفاصيل الصغيرة "القضايا الهامشية" مع أن أغلبها قضايا مصيرية  "وترتكز عليها الكثير من الامور" المهمة التي تشكل جزءً كبيراً من عالمنا وحياتنا. وتضفي عليهما نوعاً من الزينة والكمال...

وعلى ذكر "القضايا الهامشية" أتذكر فيلم "PATERSON" الذي تدور أحداثه حول حياة شاعر وزوجته يعيشان حياة رتيبة جداً تشغلهما تفاصيل صغيرة يستغلونها في صنع عالمهم، فمثلاً الزوجة تشغل يومها في صناعة الكيك أو الرسم على ستائر الشبابيك، أو تتعلم العزف على الغيتار من خلال اليوتيوب. أما زوجها الشاعر فتجده مثلاً يكتب قصيدة حب عن علبة كبريت دائماً ما يستخدمانها في المنزل، أو يصف حالة زوجته أثناء النوم عندما يصحى قبلها، أو يلتقي بفتاة صغيرة يشغلها الشلال لتكتب عنه قصيدة وتشبه بين مائه المنهمر وإنسدال شعر المرأة.

حتى أحاديث الناس في الحانة التي يسهرون فيها، أو في السيارة (حافلة النقل العامة) التي يعمل بها بطل الفيلم سائقاً، تكشف عن بساطتها ومداها الذي لا يتعدى القضايا الشخصية التي تشغل حياتهم، مقارنة بأحاديثنا في الكيات أو التجمعات والتي دائماً ما تجدها مشتعلة بإشتعال الواقع، ساخنة بسخونة احداثه، مثقلة بهموم وآلام تجعل يومنا أوله هم، وآخره غم. كذلك أحلام الزوجة في نومها فهي أحلام بسيطة وجميلة تعكس بساطة حياتهم وانشغالاتهم المحدودة، عكسنا نحن فأحلامنا أغلبها كوابيس تعكس واقع أحاديثنا المثقل بالهموم والآلام!

                      
                      


أعتقد ان الفرق بيننا وبين الأمم التي سبقتنا في الحضارة والتطور، أنها حسمت أمرها في القضايا الكبرى مما أتاح لها الفرصة للإلتفات للتفاصيل الصغيرة، فلا عجب أن تجد كتابهم وأدباؤهم يلتفتون لتلك القضايا الهامشية ويكتبوا عنها، بعكسنا نحن الذين إلى الآن لم نحسم أمر قضايانا الكبرى؟ فتجد نتاجات كتابنا خاصة في الشعر والرواية وغيرها محملةً بقضايا وهموم ثقيلة جداً، ثقل الواقع المرير الذي نعيشه.

فمثلاُ غابت الطبيعة عن نصوصنا الأدبية وعن شعرنا، غابت ـو قل غُيبت تجاربنا الشخصية البسيطة في الحياة مقابل تجارب من تصدروا المشهد والعام وأصبحوا رموزه، ومع غياب الطبيعة والتجارب الشخصية غاب المكان بوصفه حاملاً لكل ذلك، ويوماً عن يوم بدأ يتشوه ويندحر دون أدنى رعاية منا أو إهتمام؟

وإذا حضر المكان في تجاربنا وكتاباتنا، فإنه يحضر كميدان للصراعات، والحروب، والاخذ بالثأر، وتصفية الحسابات.

 لكن من بين ركام هذا الواقع وتصحره وما أُنتج من كتابات، تزهر تجربة لا بد من الإشادة بها والإشارة إليها، ذلك ما حرره الدكتور لؤي حمزة عباس وجمعه في كتاب يحمل عنوان (المكان العراقي؛ جدل الكتابة والتجربة) جمع فيه نصوص لكتاب مختلفين كان هو بينهم، تناولوا المكان ثقافياً، وسوسيولوجياً، وسيمائياً، وعمارتياً.

         
               


هذا الكتاب هو إلتفاتة عظيمة نحو الهامش الذي لم نعد نراه بفعل إنشغالنا بواقع أكبر وقضايا صورت لنا بانها أعظم. يجعلنا نتساءل: ما سر قسوتنا المفرطة مع أماكننا؟ ما سر عدم تقديرنا للعلاقة التي تربطنا بها؟ هل يعقل هذا التجاهل والجهل الذي يشكلنا جيلاً بعد جيل تجاهها؟


لعل هذه التساؤلات تجعلنا ندرك أهمية المكان كواحد من "التفاصيل الصغيرة المكلفة أكثر من الأشياء الكبيرة الواضحة، لأنها أشياء عملية وعليها ترتكز الكثير من الامور"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ضرورة استحضار التاريخ

أدب الصيف 2

أدب الصيف 1