عن الحدود غير المألوفة للإنسانية
قبل حوالي سنة أو اكثر قرأت رواية "الوجه الآخر" لفؤاد التكرلي ورغم حجمها الصغير؛ نسيت أغلب تفاصيلها، لكن مشهد واحد بقي عالق بذهني وأتذكره دائماً، مشهد عرضي في الرواية يصادف البطل أثناء خروجه صباحاً متجهاً إلى عمله.
يبدأ المشهد؛ حيث بطل الرواية (محمد جعفر) واقف وسط زحام سكان المدينة وهم ينتظرون باص النقل العام، يشاهد جعفر أحد الأشخاص في الشارع يطلب منه المساعدة بنقله إلى المستشفى لسوء حالته الصحية، والرجل مثل ما يصفه التكرلي في حال هو أقرب إلى الموت، فكان رد فعل (محمد جعفر) أن "رأى نفسه يقفز بخفة إلى الشارع وينحشر متدافعاً مع جمع الصاعدين إلى الباص!" دون أن يسعف الرجل؟!
هذا التصرف والذي يعتبر غريباً على ما نشأنا وتربينا عليه "إنك تصادف شخص يحتاج لمساعدة، وتتجاهله، خصوصاً بهكذا وضع أشبه بوضع الشخص المذكور بالرواية" هو ما أبقى هذا المشهد حاضر بخيالي ودائماً أتذكره وأتساءل عن سبب امتناع البطل عن نجدة شخص مشرف على الموت؟
قبل أيام أبحث بـ (Google) حصلت على مقالات تحلل سلوك الأشخاص الذي يمرون بحالة مشابهة لحالة (محمد جعفر)، وهذه المقالات مستندة إلى آراء أخصائيين بعلم النفس، دعتهم حادثة حقيقية مشابهة لما حدث في الرواية وقعت عام ١٩٦٤ في نيويورك للقيام بتجارب أرادوا من خلالها معرفة سبب امتناع الأشخاص عن تقديم المساعدة لمن يحتاجها، حتى لو كان طالب المساعدة في وضع خطر جداً، وربما مساعدتهم تجنبه الموت وتكتب له حياة جديدة.
في عام ١٩٦٤ في مدينة نيويورك تعرضت (كيتي جينوفيز) لطعنة بسكين من شخص اسمه (وينستون موسيلي) بالقرب من شقتها، وفي هذه الأثناء صرخت كيتي طالبةً النجدة، واستيقظ على صراخها ٣٨ شخصاً من جيرانها في العمارة!
هرب القاتل بسبب صراخ (كيتي) لكن الغريب عندما لم يلحظ تحركاً من قبل المتفرجين على الحادثة، رجع مرة ثانية وطعنها ١٧ طعنة حتى ماتت!!
بعد ٤٠ دقيقة من وقوع الحادثة؛ واحد من جيرانها أبلغ الشرطة. وعندما استجوبوا الشرطة الجيران لم يتوصلوا إلى السبب الذي منعهم من تقديم المساعدة لـ (كيتي).
لذلك قام علماء النفس بتجارب وبحوث توصلوا من خلالها لعدة أسباب قد تمنع الشخص من تقديم المساعدة، منها:
١- في المدن الكبرى وبسبب طبيعة الحياة الحديثة فيها، تخلق في نفوس أفرادها لامبالاة طبيعية إزاء هكذا حوادث. وهذه اللامبالاة هي نوع من أنواع السلوك الذي يسلكه الفرد للحفاظ على نفسه منعزلاً في ظل وجود سيل بشري هائل يحيط بحياته.
٢- زيادة عدد الموجودين في مكان الحادث يقلل من فرص تقديم المساعدة، فكل شخص متواجد يعتمد على الآخر في تقديمها.
٣- لامبالاة الفرد، أحياناً يرى أنّ هناك من هو أقدر وأكثر كفاءة منه على تقديم المساعدة. بعد أن يقدر هو نوع المساعدة المطلوبة.
اليوم وأنا ابحث بسينمانا بالصدفة وجدت وثائقي “The Witness” قام بإعداده وتقديمه (بيل جينوفيز) تبين من خلال البحث إنه أخ (كيتي)، هذا الوثائقي يسلط الضوء على الحادثة، ورغم احتواءه على معلومات وحقائق تخالف ما مذكور بخصوص عدد الشهود الـ٣٨، لكن هذا الشيء لم يمنع علماء النفس بسبب ما أثير حول الحادثة من محاولة فهم سلوك الفرد بتقديم المساعدة من عدمها، لدرجة أُجريت دراسات أكاديمية عديدة تتناول حادثة (كيتي) وتداعياتها.
كما ذكرت ما أثار الصحافة وعلماء النفس ليست جريمة القتل، بل التصرف الاجتماعي من جيران (كيتي) ولامبالاتهم بتقديم المساعدة، رغم وجود فرصة كبيرة لإنقاذ حياتها، لذا بدأوا بعقد ندوات لتوعية الناس بضرورة التدخل والمساعدة في مثل هذه الحالات حتى لا تتكرر مأساة (كيتي).
ومثل ما علق بيل كلينتون على الحادثة "الرسالة التي أُرسلت إلينا تقشعر لها الأبدان، كل منا ليس في خطر، إنما وحيد بشكل أساسي"
هذه الحادثة ومثيلاتها تدعوا لإعادة التساؤل الذي طرحه فؤاد التكرلي في الرواية نفسها، عن الحدود غير المألوفة للإنسانية؟ وهل بمستطاع إنسانيتنا أن تتصل بضعف وألم إنسان مجهول لا تربطنا معه أي رابطة؟

تعليقات
إرسال تعليق