(جعفر مردان) و (إيدن ميلر)
ذكر الدكتور كمال السامرائي بمذكراته "حديث الثمانين" في يوم من أيّام عودته من المدرسة سمع بتعجب صوت غناء صادر من واحد من البيوت. وبتعبير الدكتور تعجبت من هذا الصوت لأنه "لا يمكن أن يخرج من فم بني آدم" ولما تلصص من خلال شقوق البيت، شاهد بضعة رجال يحيطون بآلة يعلوها بوق أحمر كبير، كان يصدر منها الغناء.
الآلة هي آلة (الگرامفون) وكانت في بيت شخص أسمه جعفر مردان جلبها من بغداد.
جعفر مردان كان يشتغل (نعل بند = سكافي)، فيجتمع عنده الناس لأجل الاستماع. وبحسب ما يظهر من كلام الدكتور أنه الوحيد الذي يملك هذه الآلة في منطقتهم!
يكمل الدكتور السامرائي حديثه، حيث أنه شاهد الضيوف بعد أن انتهوا من الاستماع، يُبعدون رؤوسهم عن فتحة بوق (الگرامفون) وهم يقولون:
-عيش وشوف، بعد ما يخلقون إلا الإنسان!
فيجيبهم جعفر:
-استغفر الله فالخَلقُ لله وحده.
وقت هذه الحادثة كما يرويها الدكتور هو منتصف عشرينيات القرن الماضي، لكن بعد ما يقارب المئة سنة حدث الذي تعجب منه المجتمعون في بيت جعفر، واستغفر منه (جعفر مردان) حيث تم صنع وتطوير أول روبوت فنان شبيه بالبشر، من قبل مجموعة مهندسين في جامعة أوكسفورد بقيادة (إيدن ميلر) صاحب الفكرة والمشروع، ومثل ما هو واضح بالفيديو المرفق.
الملفت بالحادثة التي يرويها الدكتور السامرائي هو جواب (جعفر مردان) ونظرته المحدودة، وهذا طبيعي وواقعي آنذاك، إضافة إلى أن الجواب كان يعبر عن طبيعة النشأة التي ينشأ عليها الفرد بعالمنا العربي، نشأة دينية تقدم الحلول الجاهزة لكل شيء تقريباً دون نقاش، وتحاول تربط كل عمل يرى الفرد بعالمنا أنه غريب أو عاجز عن الأتيان بمثله بقوى خارقة وغيبية، دون ترك أي مساحة للتفكير ومحاولة التجريب.
بعكس من صنع (الگرامفون) فقد كانت مساحة تفكيره واسعة لا يحدها تفكير ديني أو غيبي (وهذا هو جوهر النظرة العلمية للكون والعالم) والتي من نتائجها ما وصل إليه العالم -الغربي- المتقدم اليوم، وصنع لنا (إنسان أو ما يشبهه).
هذه المساحة المقرونة بحرية التفكير والعمل دون قيود أو موانع، لم يحصل عليها الفرد الأوربي من فراغ أو بسهولة، بل هي نتيجة صراع وصِدام لفترة جاوزت القرنين مع الكنيسة ونظرتها للكون والعالم، مكنت العلم في نهاية المطاف من أن ينتصر على العقلية الدينية التي كانت مسيطرة على أوروبا، بفضل مواقف صادمة ومؤثرة تبناها مفكريهم وعلمائهم، ولعل من أشهرها ما قاله الفيلسوف لابلاس عندما قدم كتابه "نظام الكون" هدية إلى نابليون…
فسأله نابليون "وما المكان الذي يحتله الله في نظامك؟"
فأجاب (لابلاس) "الله فرضية لا حاجة لي بها في نظامي"
أو ما قاله نيتشه بخصوص "موت الإله" والتي فسرها الدكتور صادق جلال العظم بقوله: "عندما نقول مع نيتشه أن الله قد مات.... فنحن لا نقصد أن العقائد الدينية قد تلاشت من ضمير الشعوب وإنما نعني أن النظرة العلمية التي وصل إليها الإنسان عن طبيعة الكون والمجتمع والإنسان خالية من ذكر الله، تماماً كما قال لابلاس". وبتصوري هذا هو سر الفرق بين (جعفر مردان) الذي قال كلمته دون أن يتعب نفسه بالتفكير والتجريب، ومَكّن (إيدن ميلر) وفريقه من تحقيق هذا الإنجاز!
تعليقات
إرسال تعليق