التأريخ برواية محفوظ
"إن المجتمع البدائي المنعزل تكون
التراثية قوية التأثير في أفراده إلى الدرجة القصوى، وكلما كان هذا المجتمع أكثر انعزالاً،
أي أقل اتصالاً بالمجتمعات الأخرى، كانت التراثية أقوى تأثيراً فيه، وهو لا يكاد يتصل
بالمجتمعات الأخرى حتى يبدأ تأثير التراثية بالتضاؤل فيه، ولكن هذا التأثير يتفاوت
في الأفراد تبعاً لمستوى ذكاء كل واحد منهم ومبلغ انفتاحه الاجتماعي واطلاعه الفكري"
علي الوردي
يقالُ
إن الحداثةَ "في أبسط تعريفاتها مراجعةٌ دائمةٌ للفكر وآلياته"، وإذا
عدينا الرواية نتاجاً من نتاجات الحداثة؛ فهي وسيلةُ مراجعةٍ ونقدٍ عبقريةً لمن يُحسن
صنعتها. ولو استعرضنا قائمة عباقرة صُنّاع الرواية في العالم؛ قد يندر من لا يتفق بأن
نجيب محفوظ من أعظم عباقرتها وأمهر صانعيها.
برأيي
تتجلى عظمة محفوظ بأنه جعل الرواية وسيلةً لا غايةً، وسيلةً لغايةٍ تحاولُ أن تُعيدَ
قراءةَ "الفكر" من خلال مراجعة التاريخ الذي أنتج هذا الفكر، مراجعةً تُعيدُ
كتابته بمتَخَيلٍ لا يعزل البشر ونوازعهم الخَيّرة والشرّيرة بعيداً عنه. متَخَيلٌ يحاولُ
أن يُمْسكَ خيط الكتابة من المنتصف ويقف بعيداً يطالعُ من فوقِ شاهقٍ؛ يُتيحُ لصاحبه
أن يُمعن النظر بعيداً عن حصر الرؤية في ثنائية التقديس والتدنيس. وهذا ما أجاد صنعه
نجيب محفوظ في روايته أو ملحمته؛ "الحرافيش"
برمزياتها
ودلالاتها العاليتين أعادت هذه الرواية تَصوّرَ التأريخ "الإسلامي"
بعيداً عن تقديس الأفراد وتأليههم، إذا بينتهم كبشر خاضعين لقوانين الطبيعة البشرية
يتقلبون بين رغباتهم الخَيّرة والشريرة؛ حتى وإن سلمت نياتهم وصلحت خصال أفعالهم. يتجلى
هذا في بطل الرواية "عاشور الناجي" وسلالته التي تدور أحداث الرواية
حولهم. فرغم تنشأته على الأخلاق والقرآن وحبه للخير والعدل إلا إنه في لحظة ضعف سولت
له نفسه وطمعت رغباته في السيطرة على "دار البنان"؛ دار العائلة التي
ماتت مع من مات حين أصاب الداء الحارة. فقد جذبته الدار بسحرها وأرائكها وسجاجيدها
المزركشة وسقفها العالي فضلاً عن مساحتها الواسعة.
انهار "عاشور الناجي" وبدأت رغبته وإلحاح زوجته تسولان له قبول السيطرة على الدار وترك العيش في "البدروم" القبيح والرطب؛ ولكي يبرر فعلته وهو صاحب الخُلق القرآني قال: "المالُ حرامٌ ما لم ينفقُ في الحلال" … "هو حلالٌ ما دمنا ننفقه في الحلال".
من هذا
المنعطف الخطير في حياة "عاشور الناجي"؛ حيث برر سطوته على "دار
البنان" تبريراً أسنده إلى قانون الحلال والحرام والذي فسره وفق هواه ورغبته
وسمح لنفسه بأن يتكلم باسم قوةٍ غيبية ـ الإله ـ تخشاها الناس؛ لتبدأ كتابة
التأريخ والنظر إليه بنظرة التبجيل والقداسة. بناءً على أفعالٍ تم ربطها بإرادة
الإله ورغبته. ولكن لو حللنا فعل "عاشور الناجي" تحليلاً أخلاقياً
لوجدناه فعلاً "نفعياً" بامتياز؛ حيث يُعرِّف النفعي "الفعلُ
الصائبُ تحت أي ظرف من خلال حساب العواقب المحتمل وقوعها للأفعال المختلفة ويكون
الفعل أو الإجراء الأقرب إلى تحقيق أكبر قدر من السعادة (أو على الأقل أفضل موازنة تُغلَّب فيها السعادة على التعاسة) هو الفعلُ الصائبُ
في تلك الظروف"
وفق هذا المبدأ ـ المبدأ النفعي ـ حلل لنفسه السكنُ في الدار والتصرف بأموالها في رعاية الفقراء، والتصدق عليهم، وتوفير العمل لهم، "حتى لم يبق عاطلٌ واحدٌ في الحارة عدا العجزة والمجاذيب". "ولم يعرف عن وجيهٍ من قبلُ مثلُ ذلك". فرفعه الناس إلى "مرتبة الأولياء، وتحمس الجميع لإغداق الثناء عليه" ولكي تكتمل أسطورة وقداسة شخصية عاشور وإنابته عن الله في الأرض بسبب ما قام به من أفعال؛ آمن الناس بأن الله نَجّاه من دون الآخرين عندما أصاب المرض الحارة فأطلقوا عليه "عاشور الناجي!"
ولكن بعد أن اكتملت ركائز هذه الشخصية "بدلالتها الرمزية والتأريخية" من خلال إنابتها عن الله في التصرف والأفعال ونيلها الحظوة والقداسة عند البشر، كيف سينظر لها الناس بعد أن ينكشف سرها ويفتضح؟ وما لبث أن انكشف سر عاشور الناجي باستحواذه على "دار البنان" فألقت الحكومة القبض عليه، وفي أثناء محاكمته دافع عن نفسه بقوله: "لم أستأثر بالمال لنفسي واعتبرته مال الله واعتبرت نفسي خادماً له في انفاقه على عباده، فلم يعد يوجد جائع ولا عاطل، وتسائل لم قبضتم عليَّ كاللصوص؟"
"وقال الناس آمين…وحتى القضاة ابتسم باطنهم طوال الوقت" وحكموا
عليه بعامٍ واحدٍ، وعندما خرج نَصّبه الناس "فتوةً" للحارة دون منازع!
ولـ
"الفتوة" ما يقابلها من الرمز والدلالة في التأريخ يلخصها نجيب في
هذا المقطع:
"وجد عاشور الناجي نفسه فتوة للحارة دون منازع. وكما توقع الحرافيش
أقام فتونته على أصولٍ ام تعرف من قبل. رجع إلى عمله الأول ولزم مسكنه تحت الأرض كما
ألزم كل تابع من أتباعه بعمل يرتزق منه، وبذلك محق البلطجة محقاً. ولم يفرض إتاوة إلا
على الأعيان والقادرين لينفقها على الفقراء والعاجزين .. وانتصر على فتوات الحارات
المجاورة فأفضى على حارتنا مهابة لم تحظ بها من قبل، فحف بها الإجلال خارج الميدان
كما سعدت في داخلها بالعدل والكرامة الطمأنينة.
وكان يسهر ليله في الساحة أمام التكية، يطرب للألحان، ثم يبسط راحتيه
داعياً: "اللهم صن لي قوتي، وزدني منها، لأجعلها في خدمة عبادك الطيبين"!
وتمضي الأيام آمنة مطمئنة، ولكن الحارة تستفيق ذات صباح على خبر اختفاء "عاشور الناجي" الغامض، اختفاءٌ يشي باكتمال التجربة واتمام الحجة على من سيخلف عاشور في فتوة الحارة. وها هو"شمس الدين عاشور الناجي" يفوز بالفتوة بعد صراع مع غسان أحد رجالات أبيه. ويَخلِف شمس الدين أباه وهو يصف الفتوة: "هي واجبي ومصيري!"
لتصبح سيرة عاشور وصفاته دستوراً لايمكن النكوص عنه لمن جاءوا بعده وتقلدوا "الفتوة" من "آل الناجي". فيمتنع شمس الدين عن قبول هدايا أعيان الحارة مقابل تنازله عن أخذ الإتاوة منهم. ولكن أمه تقول في محاولة منها لإقناع ابنها قبول الهدايا:
"إن عاشور لم يتردد عن وضع يده على دار البنان الخالية"
ليرد عليها شمس الدين: "العبرة بالخاتمة"
فقالت: "بل أعطانا في كل حالٍ مثلاً يحتذى"
فقال غاضباً: "سيجيء زمان نلصق بعاشور كل خلجة ضعف تضطرب
في نفوسنا"
ومن
خلال موقف الأم والابن في الحوار، ينقلنا نجيب محفوظ إلى مرحلة أخرى في نظرته للتأريخ؛
مرحلة بداية التأويل لسيرة عاشور الأب حيث لم يمضي على اختفاءه سوى أيام معدودات،
وهم الأقرب زمنياً إليه، فالأم وحُجّتها لقبول الهدايا والابن في رفضه لها. في رمزية
تأريخية لثقل السيرة -سيرة عاشور الناجي- على الأجيال لما تمثله من قيمة أخلاقية مقدسة
مكتملة لا يمكن التخلص من وطأتها.
ومع
مرور الأيام وتتابع الأجيال تتعدد الرغبات وتتنوع الطموحات، وتتسع الرؤيا ويتطور التأويل
لسيرة "عاشور الناجي"، فنكتشف إلى أي مدى وصلته هذه السيرة في نظر الأجيال، من
خلال ما يكشفه الحوار بين "سليمان شمس الدين الناجي" وابنه "بكر"
وهو يقول: "ولكن جدنا عاشور الناجي كان يحب الحياة الفاخرة"
فيجيبه
أبوه: "من أنت لكي تفهم المعلم عاشور"
فيرد
بكر: " هكذا قيل يا أبي"
فقال أبوه: "لا يفهم عاشور إلا من اشتعل قلبه بالشرارة المقدسة"!
لو
لاحظنا إضافةً للقدسية التي اضفيت على سيرة الجد، حتى الأسماء فرغم أنها علامة نستدل
من خلالها على الأشخاص تميزهم عن بعضهم فإن التأريخ وقداسته أخذ منها مأخذ حيث كرر
نجيب محفوظ الأسماء في الأجيال اللاحقة لأسرة "عاشور الناجي" ليس
اعتباطاً بل لرمزية تأريخية زادت من حِمْلُ التأريخ وثقله على الأجيال فقد تكرر اسم "عاشور،
شمس الدين، سليمان..." كثيراً في الأجيال اللاحقة، وعندما سمع خمّار الحارة بحفيد من "آل الناجي" اسمه "شمس الدين جلال الناجي"
قال:
"ما أكثر الذين يسمون بعاشور وشمس الدين
في حارتنا!
أجل لم يبق من تراث الناجي الخالد إلا الأسماء. أما العهود والأفعال فتعيش في الخيال مع الأساطير والمعجزات المسربلة بالحسرات".
هذا التقديس لسيرة الجد "عاشور الناجي" وفتوته، مهّد الطريق للأجيال اللاحقة للطمع بالفتوة؛ لما توفره من سلطة ومال. ومع ضعف النفوس واهتزازها أمام المغريات، يبدأ الصراع عليها يأكل عائلة "آل الناجي". فيكشف الحوار الذي دار بين "قرّة الناجي" وزوجته "عزيزة" إلى عمق الخلاف والصراع الذي وقع بين "قرّة ورّمانة الناجي" الأحفاد؛ وهما أخوين في صراعهما على المال والسلطة، صراعٌ يُظْلّه ثقل اسم "الناجي" وانتمائهم إليه. فتقول "عزيزة" بعد أن أشارت إلى ولدها "عزيز":
"أهلك يحلمون له بالفتوة"
فابتسم قائلاً: "هكذا آل الناجي"
فقالت عزيزة: "أما أنا فأؤمن بأن أبواب الخير كثيرة"
فقال قرّة: "وعاشور؟" يقصد "عاشور الناجي"
فردت عليه عزيزة: "دائماً عاشور! …أتحن إلى أحلامهم؟" يقصد أحلامهم في نيل الفتوة من جديد بعد خرجت عنهم
ثم تُكمل
ليصل الحوار إلى ذروته فتقول:
"كم تريحون أنفسكم لو تتناسون أنكم ذرية عاشور الناجي"!
بهذه الجملة التي أطلقتها "عزيزة" يكشف لنا محفوظ كيف يصبح التأريخ ثقلاً على الأجيال، يحدها عن بعد النظر، ويقلّصُ من فرص النجاة والعيش الكريم، لينتج مجتمعاً يعيش بين ثنائية التقديس والتنديس، لا مجال لخيارٍ ثالثٍ بينهما. فكما نظر قسم من الناس لسيرة "عاشورالناجي" بالقداسة والتبجيل، برز قسم آخر من الناس من ضمنهم أحفاد "الناجي" نظروا إليه بوصفه سارقاً مدَنَساً، حيث وصفه سماحة حفيد "عاشورالناجي" وهو يكلم أخاه فتح الباب بقوله: " عاشور أول من علمنا السرقة!"
ليصل سرد التأريخ ذروة خطورته عند محفوظ حين تتحول السيرة "الفتوة" التي تقلدها "عاشور الناجي" إلى صراع تتجاذبه الأجيال بينها لتحقيق الغِنى والسيادة على الناس. فتحولت الفتوة من "فتوةٌ تؤثر الفقر والبطولة وتشكم السادة والوجهاء" إلى فتوةٍ "تحققُ القوةَ والسيادةَ والثراء". فالأجيال من "آل الناجي" تملك من التراث والموروث عن سيرة "عاشور الناجي" ما يمكّنها من كسب عطف الناس ونيل رضاهم وتحكمهم بسلطة ركائزها أولاً: [ثقافية] في مجتمع أفراده "لا يُفَرّقون بين الحقيقة والحلم، يفكرون بعواطفهم، ويحكمون على الأشياء بتعاستهم". ثانياً: [دينية] في مجتمع أفراده "يصدِّقون أن الملائكة هجرت سماواتها ذات يوم لتحمي هذا أو ذاك من أجدادهم!"
ثم تكتمل
رؤية محفوظ للتأريخ حين بدأها برمزية "عاشور الناجي"، ليختمها برمزية
الحفيد "عاشور الناجي" والذي يطابق اسمه اسم الجد فيعيد الأمور إلى
ناصبها ويسير بسيرة جده ويحقق العدل والرخاء في الحارة، ليرتاح ويفرح أهلها بعد أن انتظروا طويلاً. ويترك نجيب محفوظ القارئ يعيش وسط دوامةٍ من الرموز والدلالات تمكّنه من إعادة قراءة
التأريخ بالوقوف بعيداً على التل، ومجرداً من كل الأحكام المسبقة.

تعليقات
إرسال تعليق