المشاركات

التأريخ برواية محفوظ

صورة
  "إن المجتمع البدائي المنعزل تكون التراثية قوية التأثير في أفراده إلى الدرجة القصوى، وكلما كان هذا المجتمع أكثر انعزالاً، أي أقل اتصالاً بالمجتمعات الأخرى، كانت التراثية أقوى تأثيراً فيه، وهو لا يكاد يتصل بالمجتمعات الأخرى حتى يبدأ تأثير التراثية بالتضاؤل فيه، ولكن هذا التأثير يتفاوت في الأفراد تبعاً لمستوى ذكاء كل واحد منهم ومبلغ انفتاحه الاجتماعي واطلاعه الفكري" علي الوردي     يقالُ إن الحداثةَ "في أبسط تعريفاتها مراجعةٌ دائمةٌ للفكر وآلياته" ، وإذا عدينا الرواية نتاجاً من نتاجات الحداثة؛ فهي وسيلةُ مراجعةٍ ونقدٍ عبقريةً لمن يُحسن صنعتها. ولو استعرضنا قائمة عباقرة صُنّاع الرواية في العالم؛ قد يندر من لا يتفق بأن نجيب محفوظ من أعظم عباقرتها وأمهر صانعيها .   برأيي تتجلى عظمة محفوظ بأنه جعل الرواية وسيلةً لا غايةً، وسيلةً لغايةٍ تحاولُ أن تُعيدَ قراءةَ "الفكر" من خلال مراجعة التاريخ الذي أنتج هذا الفكر، مراجعةً تُعيدُ كتابته بمتَخَيلٍ لا يعزل البشر ونوازعهم الخَيّرة والشرّيرة بعيداً عنه. متَخَيلٌ يحاولُ أن يُمْسكَ خيط الكتابة من المنتصف ويقف بعي...

من القاهرة إلى البصرة، طرق متشابهة

صورة
عام ٢٠١٤ -ربما قبله أو بعده بقليل- في ذروة حماسي واندفاعي للعمل الإذاعي، كنت حينها مخرجاً في إذاعة (لمديرها فضل عليّ لا أنساه) تشاركت مع صديق (مقدم برامج) فيها، فكرة برنامج أسميناه "سائق التكسي". من خلال تجاربنا الشخصية بركوب التكسيات نادراً ما نركب مع سائق لا يتحدث ويقضي الطريق إلى نقطة الوصول من دون أن يفتح مع الراكب موضوع معين للحديث، وهذا ما دعانا للتفكير بهذا البرنامج، لأنها أحاديث تعكس جزءً من الواقع المُعاش وتداعياته، وكنوع من التوثيق أيضاً. وبما إن هذا الصديق كان يستخدم التكسي كثيراً في تنقلاته من البيت إلى الإذاعة، وبالعكس كذلك، فما كان عليه سوى حمل جهاز التسجيل الصوتي، وتسجيل حديثه مع السائقين. أُذيعت حلقات عديدة من البرنامج، وكل حلقة كانت مليئة بأحاديث وتفاصيل ممتعة ومهمة لمن يلتفت ويهتم بهذا النوع من البرامج. وبالرغم من أن البرنامج كان صوتي فقط، لكنه تجربة ومحاولة توثيقية للواقع والمعيشة أعتز بيها. قبل سنتين نشر صديقي فارس الكامل منشور عن فيلم تسجيلي أسمه "طُرق القاهرة" حفظت صورته وقررت مشاهدته فيما بعد. لكن بزحمة الحياة وسرعتها نسيته. اليوم بالصدفة ومن ...

أدب الصيف 2

صورة
...استكمالًا لما سبق الفكرة من مقال الدكتور طه حسين: أن بعض الأحاديث "تحتاج إلى الراحة والهدوء والقدرة على التفكير المطمئن، لكي نستسيغها في غير جهد ولا مشقة ولا تعرضٍ لهذا العناء السريع الذي نتعرض له حين يُسلط الجو علينا هذا الحر الشديد" يتحدث الدكتور عن واحد من صحابته، كان على موعد للقاء أسبوعي معه، يتداولون فيه أحاديث عن الشعر القديم، والشعر الجاهلي. بمرور الوقت هذا الصديق أنقطع عن الحضور، وأعلن عجزه عن فهم هذه الأشعار، "لأن طاقته لا تستطيع أن تثبت لدرس الشعراء القدماء وما يعرضون له من صور مهما تكن جميلة، فإنها أبية عصية تكلف الذين يطلبون إليها جمالها وروعتها شيئاً من جهد، وفضلاً من عناء". وهذا ما لم يوفره هذا الفصل من السنة. يقول طه حسين واصفاً هذا الصديق: "خُيّل إليّ أنه فرّ من هذا الجو فرارًا، وأي شيء أيسر عليه من الفرار، فلا بد لي إذن من أن أستيئس من التحدث إليه في الشعر القديم حتى تنجلي غمرة الصيف، وإذا كان هو على لينه ورقته واعتصامه بهذه الرقة وذلك اللين من أعراض الحر والبرد قد فرَّ من أحاديث الشعر القديم، فما أجدر غيره من الناس أن يضيقوا بهذه الأحاديث...

أدب الصيف 1

صورة
يكتب الدكتور طه حسين: "قيظ الصيف مرهق لا يصهر الأبدان وحدها، ولكنه يصهر معها العقول، ولعله يصهر مع العقول والأبدان بعض الأخلاق أيضًا، فيدفع قومًا من الأمر إلى ما لم يكونوا ليُدفعوا إليه لو لم يشتد القيظ على أبدانهم وعقولهم وأخلاقهم، فيمنعهم من الأناة والمهل، ومن التفكير والتروية، ومن ضبط النفس وتسليط العقل على الإرادة حين يعملون أو يقولون". قضيت يومين في بغداد لاحظت وبسبب ارتفاع درجة الحرارة، حالة هستيرية وانفلاتًا غير طبيعي ممن شغله بتماس مباشر مع الشمس (شرطة، مرور، باعة متجولون، وخاصة سواق سيارات العتبة الكاظمية). هذه الحالة لم أشاهد مثيلًا لها في البصرة، رغم الفارق بين ما تسجله المدينتين بدرجات الحرارة من حيث شدتها وقسوتها؟!   في عام ١٩٣٥ كتب طه حسين مقالًا بعنوان "أدب الصيف" يقارن فيه بين الصيف في أوربا والصيف في مصر. وكيف يتناول كُتاب وشعراء وأدباء كلا الجانبين هذا الطور من حياتهم وحياة قراءهم، كذلك كيف يستقبل عامة الناس هذا الفصل وخاصة الطلبة وعوائلهم، بعد انتهاء العام الدراسي. يذكر العميد أن الصحف الغربية تمتلئ في هذا الفصل (بأدب الصيف، أو أدب الإجازة، أو أد...

المجتمع وحمى العواطف

صورة
  عطفاً على الموضوع السابق "العقائد، مقتلةُ الفن" هناك معايير فنية وجمالية يجب أن يخضع لها أي عمل فني؟ بمعنى إن العمل الفني لا يخضع للعاطفة في تقييمه فنيًا وجماليًا، مهما كانت فكرته ورمزيته التي يرمز لها (حتى وإن كانت هذه الرمزية أو الفكرة مقدسة عند المجتمع) العاطفة في الحياة مطلوبة، لكن في لحظات الانهيار الحضاري والتفتت اللي تمر بيها الشعوب، يحتاج بناءها إلى العقل والشدة -الجدية- أكثر من العاطفة والمجاملات، تفاديًا لخلق مجتمع يجد مبرر ومخرج لكل فشل أو خطأ يقع بي؛ دون محاسبة ومراجعة، وبعدها نبقى نشتكي من تفاهة حياتنا ولا جدواها "لأن النتيجة الطبيعة لحياة هكذا مجتمعات هي: (حياة تافهة) من دون معنى" بحياة شعب النخوة والفزعة (الشعب العراقي) مساحة العاطفة والمجاملات أكبر منها مقارنة بمساحة العقل، لذلك لما نشوف واحد متجاوز أو مخالف للنظام ونعترض عليه، راح يخلق ألف حجة وحجة حتى يبرر مخالفته وأخطاءه واللي منها: "فقير وخطية وماعنده ...." ولما نشوف واحد مآخذ الرصيف، ناصب موكب راح نبرر لأن هذا الشي فعل ديني مقدس. كل هذه التبريرات والأخطاء راح تنسحب على مج...

العقائد، مقتلةُ الفن

صورة
  نشر الأستاذ (حسن ناظم) منشور عبّر بي عن سعادته بإزالة نصب "سيف ذو الفقار" البلاستيك في مدينة الكوفة...  حقيقة عجبتني طريقة الأستاذ حسن اللي عبر بيها عن استياءه ورفضه لهذا النصب، وكنت متابع الصور اللي ينشرها مع أشخاص مختلفين ويظهر فيها النصب خلفهم، الصور كانت عبارة عن رسائل احتجاج ورفض لهذا العمل البائس. هذه المشهدية البائسة هي صفة مشتركة لكل مدنا، في البصرة مثلاً وأنت تتجول راح تشوف نُصب (سيف ذو الفقار، قربة العباس، فرس الحسين، بيت الزهراء، كلمة الله) نُصب مشوهة فاقدة لكل قيم الجمال "تصميم اسطوات وخلفات" طبعاً ناهيكم عن ما يسمى بنصب "الشهيدة خالدة" هذا النصب اللي جاءت فكرته وتولدت من أسطورة شعبية، ما يصدقها المجنون قبل العاقل؟! من أسبوع وهو تاريخ نشر المنشور -منشور الأستاذ حسن ناظم- وأنا أتمنى أن أمتلك الجرأة واعبر مثل طريقته بالرفض والاحتجاج لكل الأعمال البائسة بالبصرة، ويوميًا آخذ صورة يم نُصب، لكن اليوم قرأت مقولة لـ (نيتشه) خلتني ألغي الفكرة من بالي، وأعطف على نفسي، وعلى أمنية أي شخص يتمنى أن تمتلك مدنّا علامات ونصب تكون محل جذب وانتباه، تمثل...

ضرورة استحضار التاريخ

صورة
قبل أيام؛ أثناء تواجدي في بغداد سألت سائق التكسي عن مجموعة بنايات صادفناها في الطريق، لفتت انتباهي من خلال طريقة بناءها وتصميمها، فذكر السائق تفاصيل قليلة عنها لكنها كانت ملفتة ومهمة، منها والكلام للسائق: إن هذه البنايات مُنحت من قبل السلطة السابقة لشريحة من المنتمين لها، ولكن بعد عام ٢٠٠٣ تم الاستيلاء عليها وطرد سكانها (الأصليين) منها. واستمرارًا لحديثه وإجابته عن سؤالي أشار إلى بنايات أخرى بعد دخولنا لشارع آخر، أيضًا قد تعرض أهلها الآثوريين والكلام للسائق، للترحيل وتم السطو عليها بالقوة! حقيقة طول الطريق أفكر مع نفسي، عن مصير من شُردوا من منازلهم؟ كذلك شعور الساكنين الحاليين في هذه البنايات مع علمهم (الأكيد) بأنها بنايات مغصوبة، بأي حق سكنوا فيها وربما قسم منهم باعوا أجزاء من هذه البنايات وربحوا ما ليس لهم؟ وأخيرًا تساءلت عن السبب الذي يتيح للناس أن تتصرف هكذا تصرفات تتيح لهم ترحيل وتهجير من لا يتوافقون ووجهة نظرهم؟ بعيدًا عن إجابة: إن أوقات الحرب تسمح للإنسان أن يرتد بأفعاله إلى الماضي البدائي ويُباح له أن يكون وحشيًا وقاسيًا. مصادفة مع هذا الموقف وهذه التساؤلات، أقرأ كتاب بعن...